كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلُهُ: {إِذَا أَثْمَرَ} لِإِفَادَةِ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَقْتَ إِطْلَاعِ الشَّجَرِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعِ الْحَبَّ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ وَأَيْنَعَ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} فَالْكَرْمُ يُنْتَفَعُ بِثَمَرِهِ حِصْرِمًا فَعِنَبًا فَزَبِيبًا، وَالنَّخْلُ يُؤْكَلُ ثَمَرُهُ بُسْرًا فَرُطَبًا فَتَمْرًا، وَالْقَمْحُ يُؤْكَلُ حَبُّهُ فَرِيكًا قَبْلَ يُبْسِهِ، وَأَكْلُهُ بُرًّا مَطْبُوخًا أَوْ طَحْنُهُ وَجَعْلُهُ خُبْزًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أَيْ وَأَعْطُوا الْحَقَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ زَمَنَ حَصَادِهِ فِي جُمْلَتِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، لَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُ وَلَا بَعْدَ تَنْقِيَتِهِ وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْحَصَادِ الْخَاصِّ بِالزَّرْعِ فِي الْأَصْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَنْيُ الْعِنَبِ وَصَرْمُ النَّخْلِ، كَتَغْلِيبِ الثَّمَرِ فِيمَا قَبْلَهُ لِإِدْخَالِ حَبِّ الْحَصِيدِ فِيهِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ خَاصٌّ بِالشَّجَرِ، وَهَذِهِ مُقَابَلَةٌ تُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُعَدَّ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: «مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيهِ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ السُّنْبُلِ، فَإِذَا طَيَّبْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا دُسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا ذَرَّيْتَهُ وَجَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَإِذَا بَلَغَ النَّخْلُ وَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنَ التَّفَارِيقِ وَالْبُسْرِ، فَإِذَا جَدَدْتَهُ (أَيْ قَطَعْتَهُ) فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ فَإِذَا جَمَعْتَهُ وَعَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ. وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا إِذَا صَرَمُوا النَّخْلَ يَجِيئُونَ بِالْعَذْقِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجِيءُ السَّائِلُ فَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا فَيُسْقِطُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، الرَّجُلُ يُعْطِي مِنْ زَرْعِهِ وَيَعْلِفُ الدَّابَّةَ وَيُعْطِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَيُعْطِي الضِّغْثَ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَحْدُودَةِ فِي الْأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ الْعُشْرُ وَرُبْعُ الْعُشْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهَا قُيِّدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الزَّكَاةُ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُقَيَّدَةَ الْمَعْرُوفَةَ نَسَخَتْ فَرْضِيَّةَ الزَّكَاةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالنَّسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ.
أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنُّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِيهَا قَالَ: كَانُوا إِذَا حُصِدَ وَإِذَا دُرِسَ وَإِذَا غُرْبِلَ أَعْطَوْا مِنْهُ شَيْئًا فَنَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ. قُلْتُ لَهُ عَمَّنْ؟ قَالَ: عَنِ الْعُلَمَاءِ أَيْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَعْنَاهُ نَسْخُ فَرْضِيَّتِهَا الْمُطْلَقَةِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ إِلَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَحْدُودَةَ الْمُعَيَّنَةَ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا يَوْمَ الْحَصَادِ، وَمَا تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ تَكَلُّفٌ فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ إِطْعَامُ الْمُعْدَمِ الْمُضْطَرِّ وَاجِبًا عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؟ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَمْوَالِ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَإِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا الْعَيْنِيَّةِ الثَّابِتَةِ. وَالْحَصَادُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا- مَصْدَرُ حَصَدَ الزَّرْعَ إِذَا جَزَّهُ أَيْ قَطَعَهُ كَمَا قَالَ فِي الْأَسَاسِ، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.
وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَحْدُودَةِ أَصَحُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ} إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ نُزُولِهِ، لِئَلَّا تَبْقَى الْآيَةُ مُجْمَلَةً. قَالَ: وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ الْحَقَّ الْمُرَادَ بِهَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ الصَّدَقَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَنِ السَّلَفِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ مَكِّيَّةٍ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّرْعُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ. فَإِنْ قَالُوا لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ حَصَادِهِ} يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ. انْتَهَى بِعِبَارَتِهِ السَّقِيمَةِ، وَخَطَّأُ الْمَعْنَى فِيهَا أَشْنَعُ مِنْ خَطَأِ الْعِبَارَةِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ، وَالْحَصْدُ فِي اللُّغَةِ: جَزُّ الزَّرْعِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازًا أَوْ تَغْلِيبًا، فَجَنْيُ الزَّيْتُونِ لَيْسَ مِنَ الْحَصْدِ وَلَا الْقَطْعُ، وَلَيْسَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَاجِبًا، وَالْآخِرُ هُوَ الرُّمَّانُ، فَإِنْ لَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ وَحْدَهُ، فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى جُمْلَةِ الْمَذْكُورَاتِ بِتَقْدِيرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا، أَوْ إِلَى مَا يُحْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةً لَا تَغْلِيبًا وَهُوَ الزَّرْعُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ. ثُمَّ إِنَّ إِيجَابَهُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَخِيرِ يُبْطِلُ أَصْلَ دَعْوَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ بِالنَّصِّ لِذِكْرِ الْحَقِّ بَعْدَهَا، فَمَا أَضْعَفَ دَلَائِلَ هَذَا (الْإِمَامِ) الشَّهِيرِ، وَلاسيما فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُلَقَّبِ بِالْكَبِيرِ.
وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [9: 103] مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَحْصُرُ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَكَذَا الذُّرَةُ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِيهِ مَتْرُوكٌ يُعَضِّدُهُ مُرْسَلٌ لِمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهَا كَوْنُهَا الْقُوتَ الْغَالِبَ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَكُونُ قُوتًا يُدَّخَرُ عِنْدَهُ مَنِ اتَّخَذُوهُ قُوتًا غَالِبًا كَالْأُرْزِ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْيَابَانِ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
تَقْدِيرُ الْأَوَّلِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [7: 31] وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [5: 90] فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالِاعْتِدَاءُ كَذَلِكَ، وَالْحَدُّ الَّذِي يُنْهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ إِمَّا شَرْعِيٌّ كَتَجَاوُزِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا إِلَى الْحَرَامِ، وَإِمَّا فِطْرِيٌّ طَبْعِيٌّ وَهُوَ تَجَاوُزُ حَدِّ الشِّبَعِ إِلَى الْبِطْنَةِ الضَّارَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْرِفُوا فِي الصَّدَقَةِ أَيْ فِي أَمْرِهَا، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَذَّ نَخْلًا فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ، فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَلَكِنَّ ثَابِتًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي حُكْمِ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ- كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مِرَارًا- وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَبَاذَرُوا وَأَسْرَفُوا فَأَنْزَلَ الله: {وَلَا تُسْرِفُوا} إِلَخْ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْإِسْرَافَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ مَنْعَهَا. فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُسْرِفُوا} قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ فَتَعْصُوا. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَاصًّا بِالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ. فَعَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: عُشُورَهُ. وَقَالَ لِلْوُلَاةِ: {وَلَا تُسْرِفُوا} لَا تَأْخُذُوا مَا لَيْسَ لَكُمْ بِحَقٍّ. فَأَمَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَأَمَرَ الْوُلَاةَ بِأَنْ لَا يَأْخُذُوا إِلَّا الْحَقَّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْإِسْرَافَ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ سَرَفٍ، وَفِي إِنْفَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ صَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْإِسْرَافُ مَذْمُومٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَيْ فِي نَفْسِهِ لَا فِي عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ فِيهَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الظَّاهِرُ- وَهُوَ كَمَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْرِدِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا؛ وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ وَأَيَّدْنَاهُ بِآيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْمَائِدَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بِعُمُومِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْقِعِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كُلِّ إِسْرَافٍ، وَنَاهِيكَ بِتَعْلِيلِ النَّهْيِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [25: 67] وَقَالَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [17: 26] وَقَالَ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [17: 29].
{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أَيْ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً، وَهِيَ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ الْأَثْقَالَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَهُوَ كِبَارُهَا- وَهِيَ كَالرَّكُوبَةِ لِمَا يُرْكَبُ لَا وَاحِدًا لَهُ مِنْ لَفْظِهِ- وَفَرْشًا: وَهُوَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَكَذَا صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ الْفَرْشُ مِنْ صُوفِهِ وَوَبَرِهِ وَشَعْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا حُمِلَ عَنِ الْإِبِلِ وَالْفَرْشُ صِغَارُهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتِلْمِيذِهِ مُجَاهِدٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْحَمُولَةَ الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَمُولَةِ لُغَوِيٌّ، فَإِنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ، ذَكَرَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْشَ سُمِّيَتْ فَرْشَا لِصِغَرِهَا وَدُنُوِّهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْفَرْشُ مَا يُفْرَشُ مِنَ الْأَنْعَامِ، أَيْ يُرْكَبُ. وَكُنِّيَ بِالْفِرَاشِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَفُلَانٌ كَرِيمُ الْمَفَارِشِ. انْتَهَى. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [40: 79، 80] وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ يس وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ.
{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا وَانْتَفِعُوا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْهَا {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِغْوَائِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْشِئُ وَالْمَالِكُ لَهَا حَقِيقَةً، وَقَدْ أَبَاحَهَا لَكُمْ وَهُوَ رَبُّكُمْ، فَأَنَّى لِغَيْرِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْكُمْ مَا لَيْسَ لَهُ خَلْقًا وَإِنْشَاءً وَلَا مُلْكًا، وَلَا هُوَ بِرَبٍّ لَكُمْ فَيَتَعَبَّدَكُمْ بِهِ تَعَبُّدًا، وَالْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي اتِّبَاعِ مَاشٍ يَتْبَعُ خُطُوَاتِهِ كُلَّمَا انْتَقَلَ تَأَثَّرَهُ فَوَضَعَ خَطْوَهُ مَكَانَ خَطْوِهِ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ مِنْ أَقْبَحِ الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّبَاعِ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ ضَلَالٌ فِي حِرْمَانٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَا فِي تَمَتُّعٍ بِالشَّهَوَاتِ كَمَا هُوَ أَكْثَرُ إِغْوَائِهِ.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوهُ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ مِنْ دُونِ الْخَلْقِ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ، أَوْ بَيِّنُهَا أَيْ ظَاهِرُهَا بِكَوْنِهِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ وَيَسُوءُ فِعْلُهُ أَوْ أَثَرُهُ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَبِالِافْتِرَاءِ الْمَحْضِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [2: 169] وَهَذَا حَقٌّ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ الْمِيزَانَ لِخَوَاطِرِهَا، وَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ عَدُوِّهِ حَتَّى فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِهَا!
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} نَصَبَ ثَمَانِيَةً عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ حَمُولَةٍ وَفَرْشًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا قِسْمَيْنِ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرِينَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَزَاوِجَةِ، وَعَلَى كُلِّ قَرِينَيْنِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالْخُفِّ، وَالنَّعْلِ، وَعَلَى كُلِّ مَا يَقْتَرِنُ بِآخَرَ مُمَاثِلًا لَهُ أَوْ مُضَادًّا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالِاثْنَانِ زَوْجَانِ. يُقَالُ: لَهُ زَوْجَا حَمَامٍ {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [53: 54] وَقَوْلُهُ: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} شُرُوعٌ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ، وَتَبْكِيتِهِمْ وَتَجْهِيلِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصَّصٍ، أَيْ مِنَ الضَّأْنِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا الْكَبْشُ وَالنَّعْجَةُ، وَمِنَ الْمَعِزِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا التَّيْسُ وَالْعَنَزُ، وَفِي الْمَعِزِ لُغَتَانِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا- وَقَدْ بَدَأَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بِنَوْعِ الْفَرْشِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَبِمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْأَكْلِ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِشُمُولِهِ لِصِغَارِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ تَحْرِيمِ أَكْلِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ فِي الْإِجْمَالِ ذِكْرُ الْحَمُولَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مَقَامِ الْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْمِنَّةِ بِكَوْنِ خَلْقِهَا أَعْظَمَ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا أَعَمَّ، فَإِنَّهَا كَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَنَاهِيكَ بِسَائِرِ مَنَافِعِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا بِخَلْقِ أَعْظَمِ صِنْفَيْهَا: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [88: 17].
{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَحَرَّمَ اللهُ الذَّكَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَحْدَهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ، أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وَحْدَهُمَا، أَمِ الْأَجِنَّةَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَرْحَامُ إِنَاثِ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. وَبِهَذَا السُّؤَالِ التَّفْصِيلِيِّ يَظْهَرُ لِلْمُتَفَكِّرِ فِيهِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا وَجْهَ يُعْقَلُ لِقَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ أَوِ الْحَمْلِ يَكُونُ لَغْوًا أَوْ جَهَالَةً فَاضِحَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا وَجْهَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبِعَدَمِهِ يَلْزَمُهُمُ التَّحَكُّمُ فِي أَحْكَامِ اللهِ وَكَوْنُ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَدْنَى عِلْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ خَبِّرُونِي بِعِلْمٍ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدِ رُسُلِ اللهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ مُتَلَبِّسَةٍ بِعِلْمٍ يَرْكَنُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِأَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ، وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُ مَا حَرَّمْتُمْ دُونَ أَمْثَالِهِ جَهْلًا مَحْضًا كَمَا أَنَّهُ افْتِرَاءُ كَذِبٍ.
{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} الْإِبِلُ اسْمُ جَمْعٍ لِجِنْسِ الْأَبَاعِرِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ لِمَا لَا يُعْقَلُ لَزِمَهُ التَّأْنِيثُ، وَتَدْخُلُهُ الْهَاءُ إِذَا صُغِّرَ نَحْوُ أُبَيْلَةٍ وَغُنَيْمَةٍ، وَتُسَكَّنُ يَاؤُهُ لُغَةً لِلتَّخْفِيفِ. وَمُفْرَدُهُ بَعِيرٌ وَهُوَ يَقَعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِثْلُ الْإِنْسَانِ وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْمُوَلِّدِينَ عَلَى الذَّكَرِ، وَإِنَّمَا الْجَمَلُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ كَالرَّجُلِ فِي النَّاسِ، وَالنَّاقَةُ لِلْأُنْثَى كَالْمَرْأَةِ. وَالْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ وَتُطْلَقُ الْبَقَرَةُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَالشَّاةِ مِنَ الْغَنَمِ وَإِنَّمَا الْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ، وَالثَّوْرُ الذَّكَرُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْأُنْثَى ثَوْرَةٌ وَالْجَمْعُ ثِيرَانٌ وَأَثْوِرَةٌ وَثِيرَةٌ (كَعِنَبَةٍ) وَالْبَقَرُ الْأَهْلِيَّةُ صِنْفَانِ عِرَابٌ وَجَوَامِيسُ وَيُقَابِلُهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ بِالذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَمَا حَمَلَتْ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْغَنَمِ وَالْمَعِزِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي طَرِيقِ الْإِنْكَارِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ.